حول استنزاف مصانع دقيق السمك للثروة وأثرها الكارثي على ساكنة المدينة يكتب الاستاد محمد سيد عبد الرحمن تحت عنوان "نواذيبو: الأترجة التي حنظلتها السلطات". | نور إنفو

حول استنزاف مصانع دقيق السمك للثروة وأثرها الكارثي على ساكنة المدينة يكتب الاستاد محمد سيد عبد الرحمن تحت عنوان "نواذيبو: الأترجة التي حنظلتها السلطات".

سبت, 12/08/2023 - 12:04

تفاعلا مع تقرير منظمة زاكيه حول استنزاف مصانع دقيق السمك للثروة وأثرها الكارثي على ساكنة المدينة، أعيد نشر مقال نشرته منذ عدة سنوات، تحت عنوان: "نواذيبو: الأترجة التي حنظلتها السلطات". يقول صاحب المقال انه سينقـل فيه للقارئ ما رأي ولاحظ, ستكون نظرة مقارنة بين ماضي وحاضر مدينة انواذيبو التي عرفها منذ نعومة أظافـره إذ نشأ بها وتلقي تعليمه الإبتدائي والثانوي. عاد إليها في تسعيناته حيث بدأ، منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، في ممارسة نشاط مهني حر خوله متابعة أوضاع المنطقة على مدى ربع قـرن. وسبين في هذه المعالجة كيف كانت مدينة نواذيبو بلدة طيبة قبل أن تحنظلها وتفسد مناخاتها السياسات التي انتهجت في العقود الأخيرة والتي دفعت بعض الساكنة الحية، بمختلف مكوناتها، للنزوح بينما لا يزال البعض مرابطا في تخوم المدينة الساحلية متحملا الأذى كالغـزال الذي يصبر على جدب موطنه في انتظار نضارة قد لا تتكرر.

1. كانت مدينة نواذيبو بمناخها المعتدل ونسيمها العليل أترجة طيبة الطعم والرائحة فهي تقع في نقطة فريدة بين البر والبحر يسرت التواصل بين مختلف الأحياء فمنذ القدم كانت تخوم انواذيبو سكنا للكائنات البرية والبحرية التي وجدت في شواطئ المدينة حرما آمنا ورزقا رغدا حتى قبل أن ينجذب إليها الإنسان الذي كان يتعايش مع الكائنات الأخرى بسلام قبل أن يتصاعد تعسفه مؤخرا. كنت يافعا في كانصادو، سبعينات القرن العشرين حيث اعتدت أن أسمع، كل مساء، زئير الأسود ينبعث من حديقة الحيوان.. وربما تناهى إلى سمعي عواء بنات آوى التي اعتادت انتهاز فرصة العتمة لتتسلل إلى الشاطئ طلبا للقوت.. وعندما يسفر الصباح وأسلك طريق المدرسة كنت أرى المها والغزلان تسرح خلف سياج يمتد بمحاذاة الشارع الأوحد.. وقد عاينت بداخل حديقة (النيكو) الكثير من أصناف الكائنات الحية من كواسر وقوارض وزواحف وأسماك وغيرها... لم نكن ورفاقي نستخدم وسائل الرمي المطاطية (آمبكات) التي يغير بها الأطفال الشريرون على ذوات الأجنحة مما أتاح لنا أن نتأمل عن قرب محافل طيور النورس وهي ترابط حول الحي وتقف على الأرض وتمسك أجنحتها ما وسعها ذلك.. وفي البحر كان من المعتاد أن أشاهد أسرابا كثيرة من يرقات السمك تموج في المروج الخضراء التي تغطي أغلب الشاطئ.. وظللت حتى تسعينات القرن العشرين أرى الدلافين تلعب مرحة كالزوارق السريعة وتقفز فوق صفحة الماء كما شاهدت عجول البحر الرهبان تخرج رؤوسها من اليم لإمداد رئاتها بالهواء.. ولا غرو أن تلد الثدييات البحرية على اليابسة وأن تلتقط مواليدها أثداء أمهاتها وربما تقاطر لبنها النادر على صخور الرأس الأبيض الذي بدأ يتخضب بفعل ذرات الحديد التي تذروها الرياح من الميناء المعدني القريب.. وكان من المألوف عندي عندما أرجع بصري إلى السماء أن أرى مسيرات الطيور وأسرابها البديعة المنطلقة في نظام كل مساء لحضور المهرجانات التي اختارت ذوات الأجنحة أن تلتئم خلالها في حرم آرغين. وكانت تحف حي كانصادو من جهة الشمال غابة ملاصقة للشارع الملتف شمال الحي ومن خلفها حديقة برية تنبت بعض الفواكه أما من خلف خليج السلوقي (Baie du Levrier) وفي اتجاه قبلة المدينة القديمة إلى الجانب الشرقي من شبه الجزيرة فكان ثمة كثيب رائع معـروف بتسمية (البونتيه) كنا نتزحلق عليه وكان يمتد كرئة صفـراء فاقع لونها كأنما تمد الساكنة الحية البرية والبحرية بالأكسجين والهواء الطلق الذي يغشى سفح الكثيب وينحدر منه إلى المحيط دون أن تكدره شائبة. لم يكن في هواء مدينة نواذيبو ما يعكر الصفـو ولذلك كان سالكو الطريق الرابط بين المدينة وحي كانصادو يتأففون عندما يمرون بمحاذاة حائط شركة IMAPEC ومن اليسير عليهم حبس أنفاسهم في انتظار أن تجتاز مركباتهم المنطقة النتنة الوحيدة التي لا يعدو نطاقها عدة أمتار.

2. توطدت العلاقة بين سكان الشاطئ ورحم الإنسان الحيوان لدرجة أن بعـض الأساطير المحلية تحكي عن رجال صادفـوا عرائس بحرية "اعزب لبحر" على الشاطئ فاستحلوها وأنجبوا منها أبناء يمتون للحوريات البحرية بصلة نسب.. وفي الواقع كانت الدلافين شريكا تقليديا لبني آدم لدأبها على إنقاذ الغرقى كما أشار إليه الشيخ محمد المامي ولد البخاري، رحمه الله، في قصيدة الدلفينية، منذ أكثر من قرنين، عندما قال:

العلم بحر لغـوص الماهــرين به *** تلفي اليـواقـيـت فـيـــه والمـراجـيـن

لكــنــه غـــيـــر مأمــــون تمــاسـحــه *** وليس في كل موج منه دلـفـيـن

وقد نجح مجتمع إيمراغــن في توطيد العلاقة مع بعض الكائنات البحرية إلى درجة التعاون في عملية الإصطياد فما إن تشعـر دلافين حوض آرغين ب"آمريك" يضرب صفحة المحيط بجذعه حتى تبدأ عملية مطاردة الأسماك من الأعماق لتحاصرها عند الشاطئ الذي يرابط عنده الصياديون فتمتلئ الشباك بينما تسد الدلافين رمقها في تعاون رائع صورته كاميرا المستكشف الفرنسي كوستو Commandant Cousteau في لقطات تعود لسنة 1969. وحديثا ومع نهاية الألفية المنقضية صادف أحد ساكنة انواذيبو عجلا بحريا وليدا تائها على الشاطئ فرق لحاله وحمله على كاهله ورغم ثقل الوليد الذي يزن عشرات الكيلوغرامات إلا أن الرجل تجشم عناء نقله مسافة عدة أميال إلى انواذيبو حتى أوصله لمركز بحوث والمحيطات والصيد الذي أبلغ مركز Pieterburren الهولندي المتخصص في إغاثة الفصيلة فتحرك متطوعون هولنديون بسرعة، لم يجدوا رحلة سريعة إلى انواذيبو فاستأجروا طائرة خاصة لنقل طاقم إسعاف تعاون مع الباحثين الموريتانيين على العناية بالرضيع الذي زرته في أحضانهم وأحواض CNROP حيث ظل ينمو حتى جاوز الفطام فأخلي سبيله في البيئة التي يتواجد فيها العشرات من جنسه المهدد بالإنقراض

يتواصل

بقلم الاستاد محمد سيد عبد الرحمن